لقد مرت ستة عقود أخيرة من تاريخ البشرية المعاصر دون أن تقع فيها أي حرب نووية· وربما كان السبب وراء هذا، توازن القوى والرعب النووي أيام الحرب الباردة، إضافة إلى ما وفرته الحرب الباردة نفسها من آليات ردع نووي، إلى جانب ما أحاط باستخدام هذا النوع من السلاح من سياجات وموانع أخلاقية سياسية مسيطرة· لكن ومع ما نرى من ازدياد في عدد الدول الحاصلة على السلاح النووي والقنبلة الذرية، مثلما هو حال باكستان والهند، وربما التحاق كوريا الشمالية وإيران بهما في الطريق، إلى جانب الخطط الأميركية الرامية إلى تطوير القنابل الذكية الخارقة للتحصينات الأرضية، بل وسعي الجماعات والتنظيمات الإرهابية الحثيث للحصول على أسلحة الدمار هذه، ألم يحن الوقت بعد لرفع التحريم الذي أحاط باستخدام هذه الأسلحة، وتغيير منحى الستة عقود الماضية؟
الواقع أن بصيصاً لا يستهان به من الأمل، لا يزال يستند على حقيقة أنه وعلى الرغم من توفر الكثير من الفرص لاستخدام القنبلة الذرية خلال العقود الستة المذكورة هذه، سواء من قبل الولايات المتحدة الأميركية في حربي كوريا وفيتنام، أم من قبل إسرائيل على أيام عبور القوات المصرية لقناة السويس في عام ،1973 أم من جانب السوفييت في حرب أفغانستان وغيرها من فرص ومناسبات، إلا أن الحقيقة الدامغة هي أن تلك الأسلحة لم تستخدم قط·
وهي لاشك حقيقة كفيلة بأن تلفت نظر الدول التي تمكنت من تطوير أسلحتها النووية مثل باكستان والهند، أو أياً من الدول النامية المعنية· والأحرى أن تدرك هذه الدول عند النظر إلى تفادي كل هذه الفرص الواسعة والمواتية حينها، لاستخدام الأسلحة إياها، أنها إن فعلت وتعاملت مع هذه الأسلحة بطيش عسكري سياسي، فإنها لا شك تجلب لها عاراً عالمياً، إن لم تكن لتجلب الدمار إلى نفسها بالذات· وعندما نتجه بالدرس نفسه إلى القيادة الإيرانية الحالية، ونلفت نظرها إليه على نحو خاص، فإنما يحدوني أمل في أن ترى هذه القيادة، أن أي استخدام للأسلحة النووية، عدا الاحتفاظ بها كرادع عسكري، إنما يكبدها خسارة جميع أصدقائها وحلفائها، مقابل تطويقها بهالة واسعة من الأعداء من جميع الأنحاء والجهات·
ولما كانت إيران قاب قوسين أو أدنى من تطوير الأسلحة النووية، فكيف يكون النظر إلى تهديد رئيسها محمود أحمدي نجاد الأخير، بإزالة إسرائيل من خريطة العالم كله؟ ثم أليس مثل هذا التصريح، مما يثير المخاوف ويحث إدارة بوش على تبني نهج مختلف في التعامل مع إيران، هو الأقرب إلى تكتيك الضربة الاستباقية، منه إلى استراتيجية الردع النووي التقليدية؟ هذان سؤالان أجيب عليهما بالقول إن الزعماء السياسيين أو أياً كان في إيران، هم آخر من يطمحون أو يتمنون أن يروا بلادهم وهي تشطب من خريطة العالم في المقابل· فالإيرانيون أدرى بحقيقة أن لإسرائيل ما يكفيها ويفيض من ترسانة الأسلحة النووية ونظم تشغيلها وتصويبها، ما يؤدي إلى تدمير إيران رداً على أي هجوم نووي تقوم به الأخيرة، ضد القدس أو تل أبيب· ولهذا فإن التسمية الصحيحة لأية مخاطرة بتوجيه ضربة نووية إيرانية لإسرائيل، هي الانتحار النووي، وليس شيئاً أقل من ذلك بأية حال!
ولما كنا نعلم جميعاً أن تكتيك الهجوم الانتحاري، ليس من نوع التكتيكات اللائقة بالدول والحكومات -وإنما يلجأ إليه الأفراد المجهولون الانتحاريون- فإن من الطبيعي أن نستنتج أن القادة الإيرانيين ليسوا بالأغبياء ولا السذج، حتى يخاطروا ببلادهم وأمتهم مخاطرة مثل هذه· ثم إنني على يقين من أن القادة الإيرانيين يعكفون على دراسة كل الحصن الحصينة لـ''التابو'' الذي أحاط باستخدام الأسلحة النووية خلال العقود الستة المذكورة آنفاً، فضلاً عن اهتمامهم وتأملهم للتجربتين الهندية والباكستانية في مجال تطوير الأسلحة النووية، ودراسة ما ينفع ويضر في هذه الأسلحة، عندما يجري تطوير الترسانة النووية لمجرد أغراض الردع والحفاظ على توازن القوى، وما بين الشطط والتهور في استخدامها الفعلي· تلك هي الحكمة، وذاك هو وعي الحد الفاصل ما بين النار والزيت·
وإن كنا لا نزال نتحدث عما يعنيه خطر انتهاك الدول لتحريم استخدام السلاح النووي، فإن علينا ألا ننسى التنظيمات والجماعات الإرهابية الساعية للحصول على هذا السلاح وبأي ثمن كان· وهنا أيضاً يجب علينا ألا نقنط ونفقد الأمل، بالنظر إلى المصاعب الجمة التي تواجهها هذه التنظيمات، في الحصول على المواد الانشطارية عالية الجودة -مع العلم بأن المواد التي تباع في الأسواق السوداء حالياً لا تؤدي الغرض الذي يطمح إليه الإرهابيون- إضافة إلى ما تعانيه التنظيمات ذاتها في الحصول على الخبراء والكفاءات العلمية القادرة على تطوير القنبلة النووية، خاصة وأن العمل مع مثل هذه التنظيمات، يحيط به ما يحيط من مخاطر وصعوبات كبيرة، أقلها العيش في الخفاء والانقطاع عن الأهل والأسرة والعالم كله لفترات زمنية طويلة، فوق الخطر الذي يحيط بحياة كل واحد من هؤلاء، إذا ما ألقي القبض عليه، أو تم تحديد موقعه في أية بقعة من بقاع الأرض· ولذل